فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول، وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة، إما أن يستمر عناده، أو يرجى منه أن يترك العناد، أو يترك العناد ويستسلم، وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم، وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال.
أما قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا برآء منكم} [الممتحنة: 4] فهو إشارة إلى الحالة الأولى، ثم قوله: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً} [الممتحنة: 7] إشارة إلى الحالة الثانية، ثم قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات} إشارة إلى الحالة الثالثة، ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن، وبالكلام إلا بالذي هو أليق.
واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة منهن، ولم يظهر منهن ما هو المنافي له، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان والامتحان وهو الابتلاء بالحلف، والحلف لأجل غلبة الظن بإيمانهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة: «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله» وقوله: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} منكم والله يتولى السرائر: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} العلم الذي هو عبارة عن الظن الغالب بالحلف وغيره، {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي تردوهن إلى أزواجهن المشركين، وقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ} أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة يرد إليهم، ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم، وكتبوا بذلك العهد كتابًا وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي، وقيل: صيفي بن الراهب، فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطًا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طية الكتاب لم تجف، فنزلت بيانًا لأن الشرط إنما كان للرجال دون النساء.
وعن الزهري أنه قال: إنها جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي عاتق، فجاء أهلها يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم، وكانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا: أرددها علينا، فقال عليه السلام: «كان الشرط في الرجال دون النساء» وعن الضحاك: أن العهد كان إن يأتك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، وإن دخلت في دينك ولها زوج ردت على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد، واستحلفها الرسول عليه السلام فحلفت وأعطى زوجها ما أنفق، ثم تزوجها عمر، وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} أي مهورهن إذ المهر أجر البضع {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} والعصمة ما يعتصم به من عهد وغيره، ولا عصمة بينكم وبينهن ولا علقة النكاح كذلك، وعن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة، وقيل: لا تقعدوا للكوافر، وقرئ: {تمسكوا}، بالتخفيف والتشديد، و{تمسكوا} أي ولا تتمسكوا، وقوله تعالى: {واسألوا ما أنفقتم} وهو إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم فعليهم أن يغرموا صداقها كما يغرم لهم وهو قوله تعالى: {وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم} أي بين المسلمين والكفار وفي الآية مباحث:
الأول: قوله: {فامتحنوهن} أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وذلك؟ قال الواحدي: هو بمعنى الاستحباب.
الثاني: ما الفائدة في قوله: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} وذلك معلوم من غير شك؟ نقول: فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب.
الثالث: ما الفائدة في قوله: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر؟ نقول: هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل، وفيه من الإفادة مالا يكون في غيره، فإن قيل: هب أنه كذلك لكن يكفي قوله: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير، نقول: التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر.
البحث الرابع: كيف سمى الظن علمًا في قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ}؟ نقول: إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
ثم قال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
روى عن الزهري ومسروق أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأقر المسلمون بحكم الله وأبى المشركون فنزلت: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْء مّنْ أزواجكم} أي سبقكم وانفلت منكم، قال الحسن ومقاتل: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام، وقوله تعالى: {فعاقبتم} أي فغنمتم، على قول ابن عباس ومسروق ومقاتل، وقال أبو عبيدة أصبتم منهم عقبى، وقال المبرد {فعاقبتم} أي فعلتم ما فعل بكل يعني ظفرتم، وهو من قولك: العقبى لفلان، أي العاقبة، وتأويل العاقبة الكرة الأخيرة، ومعنى عاقبتم: غزوتم معاقبين غزوًا بعد غزو، وقيل: كانت العقبى لكم والغلبة، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر، وهو قوله: {فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ}، وقرئ: {فأعقبتم} و{فعقبتم} بالتشديد، و{فعقبتم} بالتخفيف بفتح القاف وكسرها. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن، فقيل: الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها، ابتداء، وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب، والعصم: جمع عصمة: وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وكذلك العصمة في كل شيء، السبب الذي يعتصم به، ويعتمد عليه، وقرأ جمهور السبعة والناس: {تُمسِكوا} بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك، وقرأ أبو عمرو وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف {ولا تمسّكوا} من مسك، بالشد في السين، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد: {تَمَسَّكوا} بفتح التاء والميم، وفتح السين وشدها، وقرأ الحسن: {تَمْسِكوا} بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة.
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، إنه في الرجال والنساء، فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، لأن كوافر: جمع كافرة، فقال: وأيش يمنع من هذا أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبهت، وقلت هذا تأييد، وأمر تعالى أن يسأل أيضًا الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار، وقرر الحكم بذلك على الجميع، فروي عن ابن شهاب أن قريشًا قالت: نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقًا فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: {وإن فاتكم} الآية، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق، فقال محمد بن شهاب الزهري: يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى: {فعاقبتم} وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة: يدفع إليه من غنائم المغازي، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى، وقال الزهري أيضًا: يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن، والعاقبة في هذه الآية، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة.
وقرأ ابن مسعود: {وإن فاتكم أحد من أزواجكم} ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، ومنه قول الشاعر الكميت:
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن ** لعقبة قدر المستعيرين معقب

ويقال: (عقّب) بشد القاف، أي أصاب عقبى، والتعقيب: غزو إثر غزو، ويقال (عقَب) بتخفيفها، ويقال: (عقِب) بكسرها كل ذلك بمعنى: يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرئ، قرأ جمهور الناس: {عاقبتم} وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد: {عقَّبتم} بالتشديد في القاف، وقرأ الأعرج أيضًا وأبو حيوة والزهري أيضًا: {عقَبتم} بفتح القاف خفيفة، وقرأ النخعي والزهري أيضًا: {عقِبتم} بكسر القاف حكمها، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن} فيه ست عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات} لما أمر المسلمين بترك مولاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوْكد أسباب الموالاة؛ فبيّن أحكام مهاجرة النساء.
قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الْحُدَيْبِية، على أن من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلميّة بعدَ الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعدُ؛ فأقبل زوجها وكان كافرًا وهو صَيْفِيّ بن الراهب.
وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طِينة الكتاب لم تَجِفّ بعدُ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: جاءت أمّ كُلْثُوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيْط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردّها.
وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عِمارة والوليد، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخَوْيها وحبسها، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ردّها علينا للشرط، قال صلى الله عليه وسلم: «كان الشرط في الرجال لا في النساء» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعن عروة قال: كان مما اشترط سُهيل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ الْحُدَيْبِيّة: ألاّ يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددتَه إلينا، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل؛ يومئ إلى أن الشرط في ردّ النساء نُسخ بذلك.
وقيل: إن التي جاءت أمَيْمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشِّمْراخ ففرّت منه وهو يومئذ كافر، فتزوّجها سَهْل بن حُنيف فولدت له عبد الله، قاله زيد بن حبيب.
كذا قال الماورديّ: أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشِّمْراخ.
وقال المهدويّ: وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أُمَيْمَة بنت بشر من بني عمرو بن عوف.
وهي امرأة حسّان بن الدَّحدَاح، وتزوّجها بعد هجرتها سَهل بن حُنيف.
وقال مقاتل: إنها سعيدة زوجة صَيْفيِ بن الراهب مشرك من أهل مكة.
والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عُقبة.
الثانية: واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظًا أو عمومًا؛ فقالت طائفة منهم: قد كان شرط ردّهن في عقد المهادنة لفظًا صريحًا فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه، وبَقّاه في الرجال على ما كان.
وهذا يدل على أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقرّه الله على خطأ.
وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردّهن في العقد لفظًا، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال.
فبيّن الله تعالى خروجهنّ عن عمومه.
وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين: أحدهما أنهنّ ذوات فروج يحرمن عليهم.
الثاني أنهنّ أرقّ قلوبًا وأسرع تقلّبًا منهم.
فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم.
الثالثة: قوله تعالى: {فامتحنوهن} قيل: إنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ.
واختلف فيما كان يمتحنهنّ به على ثلاثة أقوال:
الأوّل: قال ابن عباس: كانت الْمِحنَة أن تُستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبةً من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقًا لرجل منَّا؛ بل حُبًّا لله ولرسوله.
فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها؛ فذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
الثاني: أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ قاله ابن عباس أيضًا.
الثالث: بما بيّنه في السورة بعدُ من قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا جَاءَكَ المؤمنات} قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله: {إِذَا جَاءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} رواه مَعْمَر عن الزُّهْرِي عن عائشة.
خرّجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
الرابعة: أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشًا، مِن أنه يردّ إليهم من جاءه منهم مسلمًا؛ فنُسِخ من ذلك النساء.
وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن.
وقال بعض العلماء: كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمامُ العدوّ على أن يردّ إليهم من جاءه مسلمًا، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز.
وهذا مذهب الكوفيين.
وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك.
وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خَثْعَم فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فَوَداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدّية، وقال: «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تَراءَى نارُهما» قالوا: فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب.
ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ.
قال الشافعيّ: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يَليِ الأموال كلها.
فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود.
الخامسة: قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي هذا الامتحان لكم، والله أعلم بإيمانهن، لأنه مُتَوَلِّي السرائر.
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي بما يظهر من الإيمان.
وقيل: إن علمتموهنّ مؤمنات قبل الامتحان {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي لم يحِلّ الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة.
وهذا أدَلّ دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتها.
وقال أبو حنيفة: الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين.
وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة والصحيح الأول، لأن الله تعالى قال: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فبيّن أن العلة عدم الحِلّ بالإسلام وليس باختلاف الدار.
والله أعلم.
وقال أبو عمر: لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار.
والله المستعان.
السادسة: قوله تعالى: {وَآتُوهُم مَا أَنفَقُواْ} أمر الله تعالى إذا أُمسِكت المرأة المسلمة أن يُرَدّ على زوجها ما أنفق، وذلك من الوفاء بالعهد، لأنه لما مُنع من أهله بحرمة الإسلام، أمر برد المال (إليه) حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال.
السابعة: ولا غُرْمَ إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا.
فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نَغرَم المهر إذ لم يتحقق المنع.
وإن كان المسمَّى خمرًا أو خنزيرًا لم نَغْرَم شيئًا، لأنه لا قيمة له.
وللشافعيّ في هذه الآية قولان: أحدهما أن هذا منسوخ.
قال الشافعيّ: وإذا جاءتنا المرأة الحرّة من أهل الهُدنَة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب، فمن طلبها مِن وَلِيٍّ سِوَى زوجها مُنع منها بلا عِوَض.
وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان: أحدهما يعطي العِوض، والقول ما قال الله عز وجل.
وفيه قول آخر أنه لا يعطي الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العِوض.
فإن شرط الإمامُ ردّ النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط ردّ النساء منسوخًا وليس عليه عِوض، لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض للباطل.
الثامنة: أمر الله تعالى بردّ مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الإمامُ، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعيّن له مصرف.
وقال مقاتل: يردّ المهر الذي يتزوّجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء.
وقال قتادة: الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل العهد؛ فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يردّ إليهم الصداق.
والأمر كما قاله.
التاسعة: قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهنّ؛ لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة.
فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال ولها التزوّج.
العاشرة: قوله تعالى: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أباح نكاحها بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرّق بينها وبين زوجها الكافر.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك.
وهو اختيار أبي عبيد؛ لقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].
وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو {وَلاَ تُمَسِّكُوا} مشدّدة من التمسك.
يقال: مَسَّك يمسّك تمسُّكًا؛ بمعنى أمسك يُمسك.
وقرئ: {وَلاَ تَمَسكوا} بنصب التاء؛ أي لا تتمسكوا.
والعِصَم جمع العِصْمة؛ وهو ما اعتصم به.
والمراد بالعصمة هنا النكاح.
يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين.
وعن النَّخَعِيّ: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر؛ وكان الكفار يتزوّجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات؛ ثم نسخ ذلك في هذه الآية.
فطلق عمر بن الخطاب حينئذٍ امرأتين له بمكة مشركتين: قُرَيبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة.
وأمّ كُلْثوم بنت عمرو الخُزَاعِيّة أم عبد الله بن المغيرة؛ فتزوجها أبو جَهم بن حُذافة وهما على شركهما.
فلما وَلِيَ عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلّق قُرَيبة لئلا يرى عمر سلَبَه في بيتك، فأبى معاوية من ذلك.
وكانت عند طلحة بن عبيد الله أرْوَى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، فحبسها وزوّجها خالدًا.
وزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب ابنته وكانت كافرة من أبي العاص بن الربيع، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها.
ذَكر عبد الرزاق عن ابن جُريج عن رجل عن ابن شهاب قال: أسلمت زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبد العُزَّى مشرك بمكة.
الحديث، وفيه: أنه أسلم بعدها.
وكذلك قال الشعبي.
قال الشَّعْبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت ثم لحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أتى زوجها المدينة فأمّنته فأسلم فردّها عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: بالنكاح الأول؛ ولم يحدث شيئًا.
قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين.
وقال الحسن بن عليّ: بعد سنتين.
قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] يعني في عدّتهنّ.
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عنى به العدة.
وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه: كان قبل أن تنزل الفرائض.
وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة (براءة) بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
والله أعلم.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {بِعِصَمِ الكوافر} المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان مَن لا يجوز ابتداءً نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب.
وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب.
ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه.
وعلى القول الأول إذا أسلم وثَنيّ أو مجوسيّ ولم تُسلم امرأته فرّق بينهما.
وهذا قول بعض أهل العلم.
ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة.
فمن قال يفرّق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تُسلم مالكُ بن أنس.
وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحَكَم، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر}.
وقال الزهري: ينتظر بها العدّة.
وهو قول الشافعي وأحمد.
واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظَّهْران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضّال. ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت.
قالوا: ومثله حكيم بن حِزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما.
قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} لأن نساء المسلمين محرّمات على الكفار؛ كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ثم بيّنت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة.
وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذّمييّن: إذا أسلمت المرأة عُرِض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فُرّق بينهما.
قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعًا في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار؛ وليس بشيء. وقد تقدم.
الثالثة عشرة: هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافًا في انقطاع العصمة بينهما؛ إذ لا عِدّة عليها.
كذا يقول مالك في المرأة ترتد وزوجها مسلم: انقطعت العصمة بينهما.
وحجته {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حَيّ.
ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة.
الرابعة عشرة: فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضًا اختلاف.
ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة.
وهو قول مجاهد.
وكذا الوَثَني تُسلم زوجته، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها؛ كما كان صَفْوان بن أمَيّة وعِكْرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتيهما؛ على حديث ابن شهاب.
ذكره مالك في الموطأ.
قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها.
ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما.
قال يزيد بن علقمة: أسلم جدّي ولم تُسلم جدّتي ففرّق عمر رضي الله عنه بينهما؛ وهو قول طاوس وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل عليها إلا بخطبة.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها.
ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردّوا إلى الكفار مهرها.
وكان ذلك نَصَفًا وعدلًا بين الحالتين.
وكان هذا حكم الله مخصوصًا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة؛ قاله ابن العربيّ.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله} أي ما ذكر في هذه الآية.
{يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم في غير موضع.
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} في الخبر: أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله؛ وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ}.
وروى الزهري عن عُروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حكم الله عز وجل بينكم فقال جلّ ثناؤه: {وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منّا أن توجهّوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها.
فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئًا، فإن كان لنا عندكم شيء فوجّهوا به؛ فأنزل الله عز وجل: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ}.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يردّ بعضهم إلى بعض.
قال الزهريّ: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقًا.
وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يُعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الْفَيء والغنيمة.
وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد.
وقالا: ومعنى {فَعَاقَبْتُمْ} فاقتصصتم.
{فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} يعني الصدقات.
فهي عامة في جميع الكفار.
وقال قتادة أيضًا: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة (براءة).
وقال الزهريّ: انقطع هذا عام الفتح.
وقال سفيان الثوريّ: لا يعمل به اليوم.
وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضًا.
حكاه القشيريّ.
الثانية: قوله تعالى: {فَعَاقَبْتُمْ} قراءة العامة {فَعَاقَبْتُمْ} وقرأ عَلْقمة والنَّخَعِيّ وحُميد الأعرج {فعقّبتم} مشدّدة.
وقرأ مجاهد {فأعقبتم} وقال: صنعتم كما صنعوا بكم.
وقرأ الزهريّ {فعقِبتم} خفيفة بغير ألف.
وقرأ مسروق وشَقيق بن سلمة {فعقبتم} بكسر القاف خفيفة. وقال: غنمتم، وكلها لغات بمعنى واحد.
يقال: عاقب وعَقَب وعَقّب وأعقب وتعقّب واعتقب وتعاقب إذا غنم.
وقال القُتَبيّ {فعاقبتم} فغزوتم معاقبين غزوًا بعد غَزْو.
وقال ابن بحر: أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين.
الثالثة: قوله تعالى: {فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} قال ابن عباس: يقول إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قِبلَكم فغنمتم، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تُخَمّس.
وقال الزهريّ: يُعْطَى من مال الفيء، وعنه يُعْطى من صداق من لَحِق بنا.
وقيل: أي إن امتنعوا من أن يَغْرَمُوا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم.
قال الأعمش: هي منسوخة.
وقال عطاء: بل حكمها ثابت.
وقد تقدم جميع هذا.
القُشيريّ: والآية نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عِيَاض بن غَنْم القرشي، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
وحكى الثعلبي عن ابن عباس: هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحِقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين: أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شدّاد الفهري.
وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر ابن الخطاب، فلما هاجر عمر أبَتْ وارتدت.
وبَرْوَع بنت عقبة، كانت تحت شَمّاس بن عثمان.
وعبدة بنت عبد العُزَّى، كانت تحت هشام بن العاص.
و(أم) كلثوم بنت جَرْوَل تحت عمر بن الخطاب.
وشهبة بنت غَيْلان.
فأعطاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.
{واتقوا الله} احذروا أن تتعدّوا ما أمرتم به. اهـ.